تحديات بريكس- نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب في مواجهة الهيمنة الغربية

المؤلف: د. عبد الحفيظ السريتي10.01.2025
تحديات بريكس- نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب في مواجهة الهيمنة الغربية

ممّا لا ريب فيه أن تفوّق الغرب، والسيطرة المطلقة للولايات المتحدة على زمام الأمور في النظام الدولي منذ سقوط جدار برلين، قد ولّد جملة من الإشكاليات المتصلة بالاستقرار والسلم العالميين، وأشعل فتيل التوترات في مناطق مختلفة.

ويبدو جليًا أن العقود الثلاثة التي تزعّمت فيها الولايات المتحدة العالم كانت مدة كافية لظهور قوى معارضة وصعود دول طموحة، تتوق إلى إزاحة الولايات المتحدة عن مكانتها المهيمنة في قيادة العالم.

ولعلّ أبرز التكتلات التي أخذت على عاتقها هذه المهمة الجسيمة والطموحة هي مجموعة بريكس (BRICS). فإلى أيّ مدى ستفلح هذه المجموعة في وضع حدّ لسيطرة القطب الواحد على القرارات المصيرية للعالم؟ وهل باستطاعة بريكس أن تضع حدًا لاعتماد الدولار كعملة وحيدة في المعاملات التجارية الدولية؟

وهل ستقوى شوكتها على مواجهة القوة العسكرية العاتية التي يمتلكها الغرب بقيادة الولايات المتحدة؟ وأخيرًا، هل ستنجح هذه المجموعة في بناء كيان متماسك، تتلاشى فيه التباينات والخلافات بين أعضائها المؤسسين والمستجدين؟

مجموعة بريكس وضرورة تعدد الأقطاب

لم يكن مقدّرًا للنظام الليبرالي الذي سطع نجمه في تسعينيات القرن الماضي أن يستمرّ كل هذه الفترة، دون أن يدفع بعض الفاعلين في النظام الدولي إلى اتخاذ خطوات ملموسة، تهدف إلى إنهاء عصر القطب الواحد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي هذا المضمار، شهد العالم بزوغ فجر مجموعة بريكس في السادس عشر من شهر حزيران/يونيو عام 2009 في مدينة يكاترينبورغ الروسية، والتي جمعت قادة كل من روسيا والصين والبرازيل والهند، وكانت تُعرف آنذاك باسم "بريك" (BRIC).

وبعد مرور عام واحد، وتحديدًا في عام 2010، انضمت جمهورية جنوب أفريقيا إلى هذه المجموعة الناشئة، لتُضاف الأحرف الأولى من اسمها إلى المجموعة، فتُصبح "بريكس" (BRICS)، وتمّ اختيار مدينة شنغهاي الصينية مقرًا دائمًا لها.

وفي عام 2017، تم طرح فكرة "بريكس بلس" (BRICS Plus) بهدف توسيع المجموعة لتشمل في شهر يناير/ كانون الثاني من عام 2024 كلا من جمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وجمهورية إيران الإسلامية، وجمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية. وبعد تراجع جمهورية الأرجنتين، أصبحت المجموعة تضم في عضويتها عشر دول، في الوقت الذي تعرب فيه دول أخرى كثيرة عن رغبتها الأكيدة في الانضمام إلى هذا القطب الصاعد.

فعلى مرّ التاريخ، لم تستطع أيّ من الإمبراطوريات العظمى البقاء والحفاظ على قوتها وتألقها إلى الأبد، فكان قانون الصعود والهبوط هو القانون الثابت الذي ينظم تداول الأيام بين مختلف القوى التي حكمت الأمم والحضارات الإنسانية المتعاقبة.

ولن تكون الإمبراطورية الأميركية والغربية بمنأى عن هذه القاعدة التاريخية، وهو ما ذهب إليه عدد من علماء السياسة والتاريخ، ومن بينهم الباحث الأميركي من أصول روسية بيتر تورتشين في كتابه "الحرب والسلام والحرب: صعود الإمبراطوريات وسقوطها"، مستندًا في ذلك إلى أطروحة العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة حول صعود الدول وهبوطها وأثر العصبية فيها، سواء بقوتها وتماسكها أو بضعفها وتفككها.

فالنظام الليبرالي الذي اعتبره فرانسيس فوكوياما في مؤلفه "نهاية التاريخ" أسمى ما يمكن أن تطمح إليه البشرية جمعاء، يترنّح اليوم وبات فاقدًا للكثير من البريق الذي لازمه في بداياته.

وليست الحروب التي شنّتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وما جرّته من ويلات ونشرته من مظالم في مناطق شتى من العالم، هي السبب الوحيد الذي أدى إلى اهتزاز الثقة وتعزيز حالة الشك والريبة، ولكن أيضًا ما يمثله النموذج الغربي من انسلاخ تام وانقلاب على الفطرة الإنسانية، وتحطيم لكل القيم النبيلة التي طالما تغنّى بشعاراتها وتبنّى الدفاع عنها.

بريكس: مواطن القوة والضعف

يبلغ تعداد سكان مجموعة بريكس ما يقارب ثلاثة مليارات وربع المليار نسمة، وهو ما يمثل 45% من إجمالي عدد سكان العالم، وتتربع على مساحة تقدر بـ 33% من إجمالي مساحة اليابسة. ويصل حجم اقتصادها إلى 29 تريليون دولار، وهو ما يعادل 29% من حجم الاقتصاد العالمي.

وبعد انضمام كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران، أصبحت المجموعة تمتلك حوالي 45% من إجمالي احتياطات النفط العالمي، و38% من إنتاج الغاز، و67% من إنتاج الفحم العالمي.

كما أن المجموعة تتوفر على 50% من الاحتياطي العالمي الخاص بالذهب، وتنتج ما يقارب 30% من السلع والبضائع التي تكتظ بها الأسواق العالمية، وبلغ محصول القمح 44.7% والأرز 54.8% في العام 2022.

وتضم المجموعة ثلاث دول نووية، وهي روسيا والصين والهند، ويقدر حجم السلاح النووي لديها بـ 6463 قنبلة نووية. وتحتل الدول الثلاث على التوالي المراتب: الثانية والثالثة والرابعة من حيث القوة العسكرية.

وإذا كانت هذه المعطيات الديموغرافية والمادية والطاقوية والعسكرية تبرز مدى قوة مجموعة بريكس وامتلاكها للمقومات التي تؤهلها لتصبح قطبًا موازيًا للقطب الأميركي – الغربي، فإنها في الوقت ذاته تعاني من بعض المشاكل والتحديات، وعلى رأسها التباينات والاختلافات بين مكوناتها.

فجمهورية الهند تعارض بشدة الدفع بالمجموعة نحو الدخول في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة، خاصة أنها عضو فاعل في التحالف الرباعي الذي يضم كلا من الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والمعروف بـ "كواد" (Quad)، وهو التحالف الذي لا يخفي أحد أهم أهدافه، وهو التصدي لتوسع الصين المتزايد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. هذا بالإضافة إلى الخلافات الحدودية المستمرة بين الصين والهند، كما هو الحال في وادي غالوان، الذي كان سببًا في اندلاع مواجهات عسكرية دامية في العام 2020.

وعلى عكس الغرب بقيادة الولايات المتحدة، الذي يبدو أكثر تجانسًا على المستويين السياسي والاقتصادي، فإن مجموعة بريكس تعاني من تباينات واضحة على مستوى أنظمتها السياسية. فالبرازيل والهند وجنوب أفريقيا تصنف كدول ديمقراطية، بينما تبقى روسيا والصين دولتين مركزيتين يحكمهما نظام شبه شمولي. في حين تحظى دول انضمت حديثًا إلى المجموعة كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بعلاقات وثيقة وتاريخية مع الولايات المتحدة.

لكن مع كل هذه التحديات المطروحة على المجموعة، فإنها تبقى مع ذلك في نظر الولايات المتحدة خطرًا حقيقيًا يهدد مكانتها في قيادة العالم، ولن تتردد في استخدام كل الأوراق التي بحوزتها لتعطيل مسيرة هذا القطب الصاعد، وزعزعة استقراره من الداخل، وذلك بدفع بعض أعضائه إلى الانسحاب.

هل يمكن إزاحة الدولار عن عرشه؟

لا تخفي كل من روسيا والصين على الأقل، الرغبة الجامحة في إنشاء عملة موحدة للمجموعة وإنهاء التعامل بالدولار بين أعضائها. لكن قوة الدولار المهيمنة تضع عراقيل جمة وصعوبات بالغة أمام إنهاء دوره الحصري في المعاملات المالية العالمية.

فالدولرة تربعت على عرش المال والتجارة والديون والأسهم لعقود طويلة، ولن يكون من السهل تفكيك هذه المنظومة المعقدة التي تعتبر سلاحًا فتاكًا في يد الولايات المتحدة، تستخدمه كأداة عقابية ضد الدول الخارجة عن طوعها.

في شهر تموز/يوليو من عام 1944، دعت الولايات المتحدة 44 دولة لإقرار اتفاقية بريتون وودز (Bretton Woods)، والتي بموجبها تحول الدولار من عملة محلية إلى عملة احتياط دولية. وعلى الرغم من بروز اليورو كعملة عالمية في العام 1999، فإنه لم يتمكن من إزاحة الدولار عن مركزه.

ويثير تسليح الدولار مخاوف دول كثيرة، ومن بينها الدول الأوروبية الحليفة. ففي عام 2014، دفع بنك BNP Paribas، وهي مجموعة بنكية عالمية فرنسية، غرامة باهظة للولايات المتحدة بقيمة 9 مليارات دولار، وذلك بسبب تمويلها لصادرات من إيران والسودان وكوبا، لكون هذه الدول كانت خاضعة للعقوبات والحظر الأميركي.

كما أن الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الشديدة التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا، قد أضرت بالدول الأوروبية التي وجدت نفسها أمام حرب تدعمها وتتجرع مرارتها وتدفع جزءًا كبيرًا من ثمنها.

ولم تكن الشركات الأوروبية بأحسن حالًا، إذ اضطرت إلى مغادرة إيران في عام 2018 بعد انسحاب الولايات المتحدة الأحادي من الاتفاق النووي الذي وقعه الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن + ألمانيا. وتكبدت هذه الشركات خسائر مالية جسيمة.

ولكن على الرغم من صعوبة مهمة تجاوز الدولار، فإن مجموعة بريكس تبدو مصممة على إيجاد عملتها الخاصة. وقد بدأت بالفعل في التخفيف من تعاملاتها بالدولار، وتنويع احتياطاتها من العملات، واعتماد العملات المحلية في التبادلات التجارية بين أعضائها.

بل إن هناك مبادرة جدية من قبل الصين لإقرار نظام دفع لتحويلات مالية بديل عن نظام الدفع الأميركي (سويفت SWIFT)، وهو نظام (CIPS)، وهو نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود (Cross-Border Inter-Bank Payment System)، الذي انضم إليه رسميًا فرع بنك HSBC في هونغ كونغ، وتم استخدامه في 135 دولة حتى شهر سبتمبر/أيلول 2024.

تضاؤل نفوذ الغرب وبروز مجموعة بريكس

تزخر المكتبات بمؤلفات كتّاب ومفكرين مرموقين، أجمعوا على قرب نهاية الغرب. ومن بين هؤلاء إيمانويل تود، مؤلف كتاب "هزيمة الغرب"، الذي سبق له أن تنبأ في مؤلف سابق بقرب انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد كان ذلك صحيحًا.

ويسوق تود القرائن والأسباب التي يدعم بها أطروحته حول بداية أفول نجم الغرب، ومنها التراجع الصناعي، وضعف التدريب الهندسي، وانحدار مستوى التعليم، والتراجع المهول للقيم البروتستانتية التي كانت السبب الرئيسي في صعود الغرب عمومًا: (الولايات المتحدة، إنجلترا، ألمانيا، والدول الإسكندنافية). كما أن الحروب التي تقف وراءها الولايات المتحدة ودول غربية، سواء في أوكرانيا أو في غزة ولبنان، قد أحدثت انقسامات عميقة داخل المجتمعات الغربية.

وما المسيرات الحاشدة التي عمت معظم العواصم العالمية إلا دليل قاطع على اتساع رقعة الرفض لسياسة الانحياز الأعمى لحرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. وما استخدام حق النقض ضد مشروع قرار وقف العدوان على غزة، ومعارضة قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت من قبل الإدارة الأميركية، إلا دليل دامغ على انهيار القيم والتنكر الشامل لقواعد القانون الدولي الإنساني.

كل هذه المؤشرات تصب في مصلحة مجموعة بريكس، وتجعل كفتها راجحة إذا ما عملت بجد على تذليل العقبات واجتراح حلول ناجعة لخلافاتها، من أجل تحقيق هدف يتطلع إليه غالبية سكان الأرض: ولادة نظام عالمي جديد أكثر عدلًا وإنصافًا، ينهي حقبة الليبرالية المتوحشة التي باتت تشكل تهديدًا حقيقيًا للسلم والأمن العالميين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة